كافكا في طنجة

حين صار خيار أسرته الوحيد ضحى بأحلامه ودراسته ليكون العائل، وحين أمسى عالةً على الأسرة لم يجد مفرا من أن يضحي بنفسه.

يعلن نص كافكا في طنجة عن ميلاد روائي مغربي مؤسسا لسرد مختلف ينشد العالمية من خلال انغماسه في البيئة المحلية بكل ما تحمله من رياء ونفاق وتناقضات.

غلاف رواية كافكا في طنجة

تحكي رواية كافكا في طنجة عن جواد الإدريسي الذي يجمع بين وظيفة التعليم ومهنة بيع الخضر. تخلى جواد عن دراسته الجامعية وطموحاته الشخصية الخاصة، واشتغل ليعيل أمه وأخته بعد أن اعتزل والده العمل في الحانة وتفرغ للاستغفار. لكن بعد سنوات من الإخلاص المستسلم للواجب الأسري، وبعد أن تعود جواد ونسي أحلامه الشخصية، جاءت الصدمة المباغتة واستيقظ ذات صباح ليجد نفسه قد تحول إلى مسخ شيطاني بقوى سحرية لن يعرف عنها شيئا وهو يستيقظ كل صباح لا يتذكر شيئا مما حدث الليلة السابقة. صار جواد يفقد نفسه بعد أن فقد وظيفته وفقدت أسرته معيلها. لقد صار الآن هو ذاته عالة على أسرته، ولم يعد أمامه إلا أن يضحي بنفسه ويقدم حياته خلاصا لمعاناة الأسرة ولأسرارها الدفينة التي برزت إلى السطح.

تقول الأستاذة مريم سليماني زرهون، في مقالها "كافكا في طنجة".. رواية ما بعد حداثية تحاكي مسخ كافكا: رغم سلبية البطل، كما نرى في كل تفاصيل حكايته، إلا أنه يمكننا أن ننظر إلى تحوله كفعل واع، كنوع من التمرد على ضغط المسؤوليات التي رزح تحتها. أو هو تحول لا إرادي بسبب الضغط ذاته الذي صار بسببه كأنه عبد يعمل للآخرين فقط ولا يحصل سوى على الفتات. حتى زوجته سنعرف في النهاية أنها لم تكن مخلصة له. منذ البداية لم يربطها به غير المصلحة. اكتشاف تلك الحقيقة ربما هو السبب الذي عجل بتحوله حين طغى عليه صديده الداخلي. ما طبيعة هذا التحول؟ صعب الجزم. في ختام الفصل الأول يلمح الكاتب إلى لقاء بين جواد وكافكا. نعرف مشاكل كافكا مع المرأة والكبت الجنسي المفروض عليه رغم احتياجه الطافح. هل جاء كافكا بتعويذة سحرية ليُسكِن جوادً شيطانا يتيح له الانتقام من النساء؟ قد تكون هذه قراءة موغلة في الغرابة لكنها ليست مستحيلة. طبيعة الراوي في الرواية تسمح بالذهاب في اتجاهات مختلفة وبعيدة لتأويل المسكوت عنه في الرواية. ثمة تشابه ضمني لا شك مع قصة الصراع بين دكتور جيكل ومستر هايد، وثمة أيضا رائحة لا يمكن إنكارها عن صفقة فاوستية، ربما لم تسر في طريقها الصحيح، بين جواد وذلك الضيف الذي يشبه كافكا.

تضيف د. فاطمة واياو، في مقالها كافكا يُبعث في طنجة من خلال رواية "كافكا في طنجة": يمكن أيضا أن نقف عند رمزية صانع الأقفال في رواية المسخ لكافكا، والذي يوازيه الفقيه في نص احجيوج، مع ما يمثل ذلك من تكييف ذكي بل وضروري مع واقع البطل جواد، واقع طنجة بل والمجتمع المغربي عامة حين يصبح الناس عاجزين ويستدعون الحلول الغيبية والخرافية التي تمثل بالنسبة لهم قوة خارقة قد تنجح في مقاومة السحر الذي تعرض له البطل ولكن أيضا في تغيير شروط عيشهم، حلول غيبية وتواكلية واستكانية غيبية يغذيها انتشار الفكر الخرافي في كل الطبقات الاجتماعية.

صفق القرد في النافذة بمرح وحك إبطه باستمتاع [...] ثم صوب نظره أقصى اليمين، عند نهاية البوليفار، حيث صرخت كوابح سيارة رياضية مستنكرة التوقف المفاجئ. خرجت من الباب المجاور للسائق شابة تلبس تنورة قصيرة بالكاد تغطي استدارة ردفيها، وقميصا فوق سرتها بالكاد يغطي السواد المحيط بالحلمتين. صفقت الباب بقوة وشتمت السائق الذي خرج وصرخ فيها بوصف العاهرة. توقفت واستدارت إليه لترد وصف العهر لأمه. انحنى داخل السيارة وخرج بمسدس في يده. صوبه إلى صدرها. تجمدت المرأة في مكانها واعترى الرعب حامل المسدس الذي بدا أنه يصارع قوة خارجية تتحكم في يده. أراد أن يرخي قبضته على المسدس لكن أصابعه ضغطت الزناد. ارتخت يده أخيرا وسقط المسدس. دخل سيارته وهرب كأن الشياطين تطارده. خرقت الرصاصة سكون الليل فبدأت بعض الأنوار تظهر من النوافذ وبعض الرؤوس تطل باحثة عن مصدر الصوت الغريب. رأى بعضهم جثة فتاة الليل المكومة على الرصيف [...] فحسبوها مجرد متشرد نائم هناك كعادة المتشردين في ظلمة هذه المدينة [...] عادت الأنوار لتغمض عينيها وتستكين تحت جناح الليل، وبدأ القرد ينزلق عبر نوافذ المبنى نازلا إلى الشارع قاصدا مهمة، لن يعرف عنها بطلنا شيئا رغم أنه حين سيستيقظ صباحا سيجد يديه ملطختين بدم غريب ولن يعرف كيف أتت تلك الدماء إلى يديه.

تضيف الأستاذة مريم سليماني، في مقالها السابق: اختيار الكاتب رواية كافكا قناعًا يعني أن روايته القصيرة، "كافكا في طنجة"، ورثت تلقائيا كل حمولة النص الأصلي حتى وإن لم تشر لتلك الثيمات بشكل مباشر، وهذه نقطة قوة منحت للنص الجديد آفاقا للتأويل لا نهائية. يلمح الكاتب إلى هذا القناع بطريقة غير مباشرة بعنوان الفصل الأول عن الحكايات المتشابهة منذ بدايات الحضارة. جاء عنوان الفصل "البطل ذي الألف وجه" تلميحا مباشرا إلى كتاب جوزيف كامبل، البطل بألف وجه، وهو دراسة تقارن ما بين قصص الأساطير القديمة وقصص الثقافة الغربية المعاصرة. يناقش كامبل نظريته عن رحلة البطل النموذجي الموجود في الأساطير العالمية وتشابه أغلب الأحداث التي يواجهها البطل أثناء مغامرته. هذا القناع، أو المحاكاة، هو أحد عناصر رواية ما بعد الحداثة، وقد استخدمها الكاتب في روايته الأولى بحنكة من خلال الاعتماد على راو غير بشري، كائن الحكي الذي أوحى إلى كافكا نفسه كما لكتاب غيره من قبل ومن بعد. المَعلم الآخر من معالم رواية ما بعد الحداثة هو الإشارات المرجعية إلى الروايات الأخرى في عناوين الفصول كما في المتن، وهنا تنفتح الرواية على روايات أخرى متعددة وتتعالق معها لتمنح للنص مستويات تأويل إضافية وللقارئ تمنح متعا لا محدودة للقراءة. كذلك تأتي سلبية البطل، أو البطل النقيض لو شئنا الدقة، مع التشظي في السرد معالم أخرى من رواية ما بعد الحداثة.

من جهة أخرى تضيف الدكتورة فاطمة واياو: يتسم أسلوب الكاتب بالتشويق وباستخدام تقنيات متعددة للحكي وبالتنوع، ما يجعلنا تائهين في مسألة التصنيف وبكل بساطة هو كاتب عصي عن التصنيف لأنه دائم التجريب وينفلت بسهولة من القوالب الجاهزة للسرد ما يمنح أعماله بشكل عام ألقا وفرادة حتما ستتطور وستساهم في تغيير النمط السردي المغربي في مستقبل الإبداع الروائي... يتحدد مكان أو فضاء السرد في "كافكا في طنجة" من خلال اختيار الكاتب مقاربة واقع متأزم لمدينة طنجة وهو واقع أعلن عنه في مستهل روايته حيث يعلن للمتلقي بأن طنجة التي سيشهدها كافكا هي غير طنجة التي تبدو في الواجهة، إنها مدينة العنف والدعارة والخيانة، وهو المكان الرئيسي للرواية رغم أن للمتن الحكائي استرجاع لأمكنة ماضية متوازية مع الزمن المستعاد... أما زمان الرواية فهو متعدد لأنه يعتمد تقنية الاسترجاع، فيمتد على مسافة زمنية طويلة هي جزء من تاريخ المدينة ومن منطقة الشمال المغربي، وبالتحديد يمتد على مدار ثلاثة أجيال، مبتدئا من عام الجوع بمنطقة الريف الموطن الأصلي لعائلة البطل جواد الإدريسي وانتهاءً بالزمن الحالي في طنجة القرن الواحد والعشرين في وجهها المدرج بالمتناقضات والآلام.

لغة الرواية أنيقة والسرد يخلو من التكلف والصنعة وأسلوبها سلس وعفوي، ولا تخلو من مواقف مضحكة وخفة ظل غير مباشرة وسخرية مبطنة فضلا عن النظر الثاقب الذي يتمتع به مؤلف الرواية وسلطه لكشف المستور من العيوب الاجتماعية... رواية ناضجة ومشوقة. النكهة مغربية أصيلة. قراءتها كانت متعة حقيقة.

سكنها أرق مقيم إلى أن مات ابنها (الفصل السادس من رواية كافكا في طنجة)

لم تنم الأم ليلتها تلك، ولا الليلة التي بعدها، ولا التي تلت ولا أي ليلة أخرى. سكنها أرق مقيم إلى أن مات ابنها. عندها تنهدت بعمق ونامت.

قضت ليلتها الأولى مستلقية على ظهرها بجانب زوجها النائم، تردد بعض الأدعية التي تحفظ وسور القرآن القصيرات التي حفّظها لها جواد بصبر وأناة لأجل أداء الصلوات. يأتي شخير زوجها ليخرجها من تركيز الأدعية والآيات فتنتقل إلى الدعاء بالسخط وإلقاء اللعنات على جارتهم التي لا شك سحرت ابنها، ثم سرعان ما تتوقف عن التمادي وتستغفر الله عائدة إلى الأدعية والمعوذتين، إلى أن يخرجها شخير زوجها مجددا من تركيزها.

قلبها يتقطع على جواد، وتفكر ماذا كانت ستفعل لو أنه ابنها الحقيقي. تحرك رأسها يمنة ويسرة بعنف هستيري تحاول طرد الفكرة من رأسها. تصر على أسنانها وتتمتم لنفسها. ”لا فرق. جواد ابني.“ وتتذكر كيف سحرتها عيون الرضيع الواسعة وكيف غرقت في بحر تلك العينين البراقتين الواسعتين البريئتين.

ولدت في حي مرشان، وتعود أصولها إلى قرية بني بوفراح المتاخمة للحسيمة. جاءت عائلتها هربا من المجاعة فاستقرت عاما في تطوان حيث اشتغلت والدتها خادمة لدى عائلة إسبانية، ثم شدت العائلة الرحال مجددا فنزلت بطنجة حيث لم يكن الوضع أفضل. مرت فاطمة بسنوات من المعاناة والفقر والحرمان خلال طفولتها ومراهقتها، لذلك حين جاءها محمد الإدريسي، المنحدر من القرية نفسها، خاطبا لم تتردد ووافقت فورا، رغم أنه جاء وبين ذراعيه رضيعه الذي بالكاد أكمل عاما.

لو شئتم الدقة هي أقنعت نفسها أنها وافقت، فالحقيقة أن أباها كان سيزوجها سواء وافقت أم لم توافق.

أخبرهم الخاطب أنه أرمل توفيت زوجته وتركت له الرضيع جواد. في ذلك الزمن لم يكن بالإمكان التحقق بسهولة من ذلك. وستعرف فاطمة، بعد سنوات، أنه كذب. لم يكن أرملا. تخلى عن زوجته في تطوان وجاء حاملا ابنهما، تاركا المرأة المسكينة تجوب الشوارع، تفترش الأرصفة، وتسأل المارة إن رأوا وليدها جوادا. بقيت مشردة أشهرا إلى أن صادفتها إحدى الراهبات الإسبانيات فأخذتها واعتنت بها.

بعد سنوات ستعرف أم جواد طريقها إلى بيت فاطمة، وسترفض فاطمة، التي ستعاني من العقم لسنوات قبل أن تحبل بهند، أن تعيد لها ابنها. لسببين، أولا هي اعتنت بالطفل لثلاث سنوات وما عاد بالإمكان فصله عنها، إنه ولدها الآن شاء من شاء وأبى من أبى. وثانيا هي لن تسلم طفلا مسلما لامرأة غيرت دينها وتحولت إلى المسيحية. أول ما فعله الأب عند عودته هو جر زوجته الأولى من شعر رأسها ورميها خارج البيت حافية. لم تتقبل فاطمة ذلك العنف من زوجها تجاه زوجته الأولى، التي ما تزال في ذمته، إلا أنها بقيت خرساء صامتة. كانت خائفة من مثل ما فعل بزوجته الأولى ويأخذ منها جوادا. بعد ذلك بأيام قليلة حملوا أثاث بيتهم القليل وارتحلوا للاختفاء في الحي الشعبي بئر الشعيري.

انفلتت دمعات من عيني فاطمة وانزلقت على وجنتيها المتجعدتين قبل الأوان. عمرها ستة وأربعون لكن من يراها يحسبها على مشارف الستين. تساءلت إن كان الابتلاء الذي أصاب جوادا هو عقاب من الله لها ولزوجها لما فعلاه بالأم المسكينة، أم جواد الحقيقية.

جاء أذان الفجر وبدأ زوجها يتقلب استعدادا للاستيقاظ. أغمضت عينيها متظاهرة بالنوم، وانقلبت على جنبها الآخر مديرة ظهرها لزوجها. بقيت كذلك حتى سمعت باب الشقة يغلق خلف الزوج الذي خرج إلى المسجد، ثم قامت بدورها. ذهبت أولا إلى غرفة جواد. واربت الباب قليلا وأطلت من الفرجة الضيقة. رأته على فراشه ممددا تحت غطائه والنافذة مشرعة على نسيم الفجر البارد القادم معبقا برائحة البحر. رغم ذلك أزكمتها دفقة من الرائحة النتنة فغطت على أنفها مقاومة شعورا جارفا بالغثيان. عادت خطوة إلى الخلف وأغلقت الباب.

توضأت وصلت صلاة الفجر، ثم جهزت المبخرة وعادت إلى غرفة ابنها لترقيه. قربت المبخرة من أنفها لتتغلب على رائحة الغرفة ثم دفعت الباب. انقبض قلبها حين وجدت أن جوادا تقلب وانزلقت عنه الملاءة وتجمدت عيناها على صدره المشعر بغزارة وقدميه المشوهتين وشفته المتدلية. استغفرت وحوقلت واستعاذت بالله من الشيطان الرجيم، ثم اقتربت من الفراش لتبدأ طقوس الرقية غير أنها أسقطت المبخرة وصرخت حين رأت الدماء تغطي يدي جواد إلى المرفقين.

انفتحت عينا جواد فارتعبت الأم أكثر من الحمرة القانية التي غطت البياض كله. فتح الابن شفتيه وأراد أن يقول شيئا وهو يحرك يديه بحركات لم تفهم منها الأم شيئا، ولم يخرج من شفتيه سوى همهمات غامضة تكاد تكون زمجرات وحش يتألم. غطت الأم وجهها بيديها ودفنت رأسها في صدرها. جاءت هند في تلك اللحظة ورأت ما رأت أمها. ربتت على كتفي أمها ثم طوقت خصرها وأخرجتها.

ارتمت الأم على الأريكة وألصقت ركبتيها بصدرها وانطلقت تنشج بخفوت وببكاء متقطع شبه صامت. استمرت كذلك حتى عاد الأب من صلاته فقطعت بكاءها دفعة واحدة وقد اتخذت قرارها بشأن ما ستفعل.

بعد الإفطار ذهب الأب ليواصل نومه. أطلت الأخت على أخيها، ونظر الواحد منهما إلى الآخر نظرات صامتة، وتركت له فطوره بجانب الباب ثم عادت وأقفلت الباب. أما الأم فقد قامت لتلبس جلبابها وتسدل على وجهها لثامها الأبيض ثم خرجت متوجهة إلى فقيه سمعت الكثير عن بركاته.

يفترض أن تأخذ معها ابنها المبتلى بهذا السحر، لكنها تعرف استحالة ذلك، فاكتفت بأخذ قميصه من سلة الملابس المتسخة، وذهبت إلى مشوارها، حيث سيؤكد لها الفقيه، بثقة من سمع قصتها التي حكتها قبل دخولها إليه، أن ابنها مسحور والفاعلة امرأة سوء تريده لابنتها. السحر وضع تحت ممسحة القدمين خارج الباب وقد خطا عليه عند خروجه ثم عند دخوله، ثم أخذت امرأة السوء السحر ورمته في الحمام وقد وصل الآن إلى البحر حيث لا يمكن أبدا استعادته. ”ما الحل الآن؟“ خرج السؤال مترددا مرتبكا من امرأة لم تتعود الخروج من البيت دون رفقة زوجها أو ابنتها، فأخذ الفقيه قميص الشاب المسحور، تفل فيه ثم أشعل النار فيه وتركه يحترق فوق صفيح معدني على يساره، وانتظر حتى احترق تماما، ثم قام وجمع الرماد وسكب عليه قليلا من الحبر، وتفل فيه مجددا، ثم غمس القلم في الحبر المختلط بالرماد وخط بعض الخربشات في ورقة خشنة، ثم طواها بعناية بعد أن انتهى ووضعها في حجاب سلمه للأم المكلومة وطلب منها أن تضعه في عنق ابنها أو، إذا تعذر ذلك، تحت مخدته.

قامت الأم ووضعت عشرين درهما في يد الفقيه، فزعق الفقيه ورماها كأنها جمرة مشتعلة، ثم صرخ بصوت مرتفع مستعيذا بالله من الشيطان وقال إن سحر ابنها سحر صعب تطلب منه جهدا جهيدا، والجن الأزرق الذي يخدمه لا يقبل إلا أزرقا. استدارت الأم وأخرجت من صدرها محفظتها وأخرجت منها الورقة النقدية الزرقاء وتحسرت على الأيام الخوالي التي كان فيها الفقهاء يقنعون بخمسة دراهم. الآن يطلبون مئتي درهم. اختطف الفقيه ورقة المئتي درهم من يدها وابتسم لها كاشفا عن أسنانه النخرة. ”إنه الغلاء سيدتي. حتى أسيادنا الجن يعانون من الغلاء.“

ستتحسر المسكينة فاطمة قريبا على ذلك المبلغ الفادح حين تجد أن الحجاب الشافي جاء بأثر عكسي. فقد رأت، بعينيها اللتين سيأكلهما الدود، كما حكت لاحقا لامرأة عند فقيه آخر، بأنها ما إن تسللت عصرا إلى غرفة ابنها، وقد حمدت الله أنه كان نائما مجددا، ووضعت الحجاب تحت مخدته حتى رأت حاجبيه ينموان بشكل مخيف. تجمدت برهة مصدومة مرتعبة، ثم مر الخاطر برأسها فجربت أن تخرج الحجاب من تحت المخدة ورأت، لعجبها، أن شعر الحاجبين عاد لحجمه. وضعت الحجاب مجددا، وهذه المرة رأت اللحية تطول وتطول حتى تدلت على الفراش. قاومت بصعوبة ألا تسقط فاقدة الوعي وسحبت الحجاب مجددا، فعادت اللحية تقصر كما كانت من قبل. قررت أن تحرق الحجاب وتبحث عن فقيه آخر. وهو أمر سيتكرر من فقيه إلى آخر طيلة شهرين، قبل أن تقرر في الختام الاستسلام لقضاء الله وقدره.

محمد سعيد احجيوج

ولد الكاتب محمد سعيد احجيوج في مدينة طنجة المغربية في الأول من أبريل 1982. أصدر من قبل مجموعتين قصصيتين، "أشياء تحدث" و"انتحار مرجأ"، وسبق له الفوز بثلاث جوائز شعرية. كما أصدر مجلة "طنجة الأدبية" وعددا من المشاريع الأدبية والثقافية قبل أن يغيب عن الساحة الثقافية لفترة تجاوزت عشر سنوات. صدرت له في القاهرة، ديسمبر 2019، نوفيلا "كافكا في طنجة"، وفازت روايته "ليل طنجة" بجائزة إسماعيل فهد إسماعيل للرواية القصيرة، وتصدر له خلال خريف 2020 رواية "أحجية إدمون عمران المالح" عن دار هاشيت أنطوان، في بيروت.

ملخص رواية التحول لفرانز كافكا (الفصل السادس من رواية كافكا في طنجة)

الثلاثاء، 30 غشت: جاء الصباح التالي واستيقظت مجددا على صرخة. قبل أن أنام تمنيت أن تكون أحداث النهار حلما طويلا سأستيقظ منه صباحا. غير أن الصرخة التي حملت صوت ماما قتلت ذلك الأمل في قلبي فقفزت من فراشي وجريت لأرى ما حدث هذه المرة. يا الله على هذه الرائحة. رائحة الموتى. كيف يتحملها أخي المسكين؟ رأيت خلال دخولي السريع فراغ طبق اللحم الذي تركته له مساءً. سعدت لذلك. رأيت ما سبب صراخ ماما ولم يكن لدي أي تفسير لسر تلك الدماء على ذراعيه. أخرجت ماما وخلال ذلك حملت معي كتابا كان ملقى على الأرض بجانب الفراش جذبني عنوانه الغريب ”التحول“. سأعود لاحقا للغرفة بطعام الفطور لأخي. تركت الباب مفتوحا وأبعدت الستارة عن نافذة الغرفة ورششت الغرفة بمعطر للجو غير أن تلك الرائحة بقيت مقيمة ملتصقة بالغرفة لا تبرحها. لم أستطع البقاء طويلا فقلبي يكاد يقفز من حلقي رفقة محتويات معدتي. خلال ذلك كان الوالد قد عاد لحصة نومه الصباحية وخرجت ماما على غير عادتها. أطعمت الصغيرة أمل ولاعبتها قليلا ثم انشغلت بالمهام المنزلية وبعد ذلك بدأت بإخراج وترتيب مستلزمات الدراسة التي سنعود لها بعد أسبوع. لم يخرج جواد من غرفته أبدا منذ الأمس ولا حتى إلى الحمام. تساءلت أين يلبي نداء الطبيعة وتقلصت أمعائي وشعرت بالاشمئزاز حين فكرت أنه يقضي حاجته في الغرفة أو على الفراش وبأنه سيكون عليّ أنا أن أنظف ذلك. أعرف أن ماما لن تتحمل ذلك بكل الأمراض التي تسكن جسدها. سأفعل. سيكون ذلك قليلا لأجل أخي الذي فعل الكثير لأجلي. لولا أنه تخلى عن أحلامه وتفرغ لرعاية أسرتنا بعد أن توقف الوالد عن ذلك لما استطعت متابعة دراستي. كان الوالد يلمح أكثر من مرة إلى أنه لا حاجة للمرأة إلى الدراسة. يوما ما سيأتي رجل ليأخذها. الأفضل أن تخرج الفتاة للعمل. أي عمل. وتأتي براتبها نهاية كل شهر وتضعه على حجر والدها وتطلب بركاته. مهما أفعل لن أوفي جوادا حقه. إنه الجواد الكريم حقا والجواد لا يوفى أجره أبدا.

الأربعاء، 31 غشت: لم أنم الليلة الماضية ولم أتوقف عن البكاء. ما كنت أخشاه قد حدث. على مائدة العشاء الذي لم نتناول منه سوى لقيمات قال الوالد فجأة موجها كلامه لي. قال إني قد درست ما يكفي وتعلمت كل ما أحتاج إليه. يكفي أنني حصلت على شهادة الباكالوريا ودرست عاما في الجامعة. لا حاجة لشهادة الإجازة. قال إنه قام بواجبه منذ زمن والآن جاء الدور عليّ لرعاية الأسرة بعد أن توقف أخي عن ذلك. قال الوالد ورمى ظرفا إلى المائدة إن أخي قد شطب عليه نهائيا من سجل الوظيفة العمومية. لا راتب له بعد الآن ولا استفادة من صندوق التقاعد ولا أي تعويض كيفما كان شكله. مستحيل. بهذه السرعة؟ يا الله على البيروقراطية المغربية حين تريد أن تعمل بسرعة. قال الوالد إني يجب أن أخرج للعمل. قال إنه التقى بصديق قديم كان يعمل معه ساقيا في الحانة قام مؤخرا بافتتاح مقهى فاخر مطل على شاطئ مالاباطا. غمغم بخفوت لم يخف غيرته أنه ما كان له ليمتلك مالا لذلك المشروع لولا أنه انتقل للاتجار في المخدرات. رفع رأسه إليّ وقال إن صديقه موافق على تشغيلي نادلة في مقهاه ويمكنني البدء من الغد. لطمت ماما وجهها وضربت على صدرها. ابتلعت ريقي بصعوبة وقمت شبه مخدرة متوجهة نحو غرفتي والدموع تغم رؤيتي. قبل أن أصل جاء زعيق الوالد وأمسكني من شعري وجرني إليه صارخا بأن أعود للجلوس ومواصلة الأكل إلى أن يأذن لي بالقيام. اليوم استيقظت محمرة العينين. عليّ الاستحمام سريعا والذهاب إلى المقهى لأبدأ عملي.

الأربعاء، 31 غشت (مساء): عدت بعد أن انتهت حصة عملي قرب العصر. آلمني الحذاء جدا وقد أشار لي مشغلي بضرورة انتعال حذاء رياضي خفيف لمثل هذه الأعمال التي تتطلب الوقوف لساعات. كان مشغلي لطيفا غير أن اليوم الأول كان متعبا جدا رغم أني لم أكن أعمل فعليا بل فقط أتعلم أسلوب العمل. أطللت على أخي بمجرد ما دخلت فوجدته جالسا القرفصاء في ركن الغرفة مغمض العينين كأنه يتأمل. فتح عينيه حين دخلت ورسم على شفتيه ابتسامة بالكاد ترى بين شاربه ولحيته المشعثين وشفته المتدلية. بادلته الابتسامة ووضعت له على الفراش شطيرة لحم مفروم أحضرتها معي من المقهى. ذهبت إلى الاستحمام وخرجت إلى حضن والدتي حيث بكينا معا بصمت قبل أن يأتي بكاء أمل فنهضت لأغير لها وأجهز لها الحليب.

الخميس، 1 سبتمبر: قبل أن أنام أمس قرأت قصة التحول التي أخذتها من غرفة أخي. يا إلهي كم هي متشابهة مع ما يحدث الآن. يكاد التشابه يكون حرفيا وكم أخاف أن تكون النهايةُ النهايةَ ذاتها. تحكي القصة عن جريجور سامسا. مندوب مبيعات متجول. شاب عازب ضحى بنفسه وبطموحاته طيلة سنوات ليعيل عائلته المكونة من أب وأم وأخت صغرى بعد أن خسر الأب تجارته وغرق في الديون. اضطر الشاب للعمل في وظيفة لا تعجبه لينقذ عائلته من الفقر. لكنه ذات صباح استيقظ فوجد نفسه قد تحول إلى مسخ. إلى حشرة ضخمة. يومذاك تغير كل شيء بالنسبة للعائلة. في البداية ولأن جريجور تأخر عن العمل ذلك الصباح جاء الموفد من المدير مستفسرا عن أسباب التأخير فاكتشف التحول وكانت نهاية الوظيفة ومصدر الدخل الوحيد للعائلة. وجد الأبوان صعوبة في هضم وتقبل التحول. تعامل الأب كان صارما جدا ودفعه القاسي لابنه في الصباح الأول للدخول إلى غرفته تسبب في أذيته وكسر أحد أرجله المتعددة. وحدها الأخت اهتمت بجريجور وصارت تقوم بأموره تأتي له ببقايا الطعام المتنوعة لينتقي منها ما يناسبه وتنظف غرفته. وبسبب هروب الخادمة والطباخة كان على الأخت أن تقوم بكامل مهام البيت بجانب الأم. ثم اضطرت الأم للعمل في حياكة الملابس من البيت وخرج الأب للعمل. رأت الأخت بعد أيام أن الحشرة التي صارها أخوها تحب أن تدور في الغرفة وتتسلق الجدران. فكرت أنه من الأفضل أن تفرغ الغرفة من قطع الأثاث الكبيرة التي ما عاد يحتاج إليها أخوها لتمنحه فراغا أكبر لحركته. سعد الأخ بداية غير أنه من واقع بقايا الإنسانية التي ما زالت تجري في عروقه تسلق الجدار وتعلق باللوحة المفضلة لديه حتى لا تؤخذ منه. حين عادت أخته ووالدته بعد أن أخرجتا صندوق ملابسه رأته والدته ملتصقا على الجدار فأغمي عليها خوفا ورعبا. خرجت أخته لإحضار ما تنعش به أمها فتبعها الأخ الحشرة. في أثناء ذلك عاد الأب من عمله ورأى زوجته مغمى عليها ورأى الحشرة أسقطت إناء ماء فبدأ يرمي ابنه بالتفاح حتى يعيده إلى غرفته. الحجم الضخم للحشرة لم يسمح لها بالدوران بسهولة والعودة للغرفة لذلك تأذت كثيرا من التفاح الملقى عليها بقسوة. إحدى التفاحات اخترقت ظهره وآلمته كثيرا. تمكن جريجور أخيرا من العودة إلى غرفته حيث فقد الوعي من الألم. بقيت التفاحة في ظهره تتعفن وتمرضه أكثر فأكثر خاصة أنه بدأ يمتنع عن الطعام فصار يذبل أكثر وأكثر. الأخت خرجت أيضا للعمل وتوقفت عن الاعتناء بأخيها الذي صارت حركته مقيدة جدا. لاحقا سيأتي ثلاثة رجال لتأجير إحدى غرف الشقة وستعمل الأسرة على خدمتهم. ذات يوم بعد العشاء أخذت الأخت الكمان وانطلقت تعزف للمؤجرين. لطالما كان جريجور مغرما بعزف أخته وقد كان يوفر منذ فترة مالا ليغطي تكاليف تسجيلها في المعهد الموسيقي. مسحورا بعزفها الذي اشتاق له خرج من غرفته ناسيا الرجال الغرباء الثلاثة الذين ما إن رأوه حتى أرغوا وأزبدوا وهددوا رب الأسرة بالمقاضاة وعدم أداء الأجرة بسبب إيوائه لحشرة في البيت. غادر المؤجرون وفي لحظة الغضب تلك قالت الأخت إن الوقت حان للتخلص من الحشرة. قالت إن الحشرة ليست أخاها الطيب أبدا. الأخ اختفى إلى الأبد. لو كان أخوها ما يزال داخل هذه الحشرة لخجل من نفسه وغادر منذ زمن ليمنع عنهم المعاناة. في تلك الليلة فكر جريجور أن الحل فعلا هو أن يختفي. في ذلك الفجر مات جريجور. أصبحت العائلة على الخبر الذي أسعدها. قرر ثلاثتهم الحصول على يوم إجازة والذهاب إلى الضواحي للاستمتاع بالهواء النقي. آنذاك فكر الأبوان كيف أن ابنتهما نضجت وصارت زوجة بالغة الجمال. أخرجني من خواطري صوت التنبيه من الهاتف فقرأت رسالة أيمن يسألني عن سر الغياب وإذا كان بإمكاننا اللقاء. تأملت في رسالته عميقا وفكرت في قصة كافكا الغريبة التي تكاد تتحقق بحذافيرها على أسرتي. كتبت رسالة إلى أيمن. أخبرته بأنه لا يمكنني الخروج اليوم إذ سيجيئ إلينا ضيوف. سألني عن الضيوف فقلت إنهم فرع بعيد من العائلة سيأتون لخطبتي. جاء رده عبارة عن صورة إيموجي لوجه يلطم أتبعها بوجه باك. سألته ما به فذكرني بحبنا. أخبرته أن الأمر ليس بيدي. أبي سيوافق حتما على عائلته. أخبرته أنني يمكنني المماطلة بضعة أيام إذا كان سيأتي لخطبتي قبل نهاية الأسبوع. للأسف لم أتوصل منه بأي رد. هذه الحيلة لم تنفع معه.

أخيرا يمكن القول إن الكاتب محمد سعيد احجيوج بعمله الروائي الأول استطاع أن يؤسس بمعية كتاب روائيين مغاربة لسرد مغربي خاص يتسم بالأصالة والتحديث من خلال استلهام تجارب الروائيين العالميين. كما أنه تمكن من النأي عن الشكل التقليدي للسرديات المغربية، والتي كانت تحاكي الواقع كما تحاكيه السينما أو التلفيزيون، حيث اتبع نمط السرد الخيالي والغرائبي متجاوزا الحدود الزمنية والمكانية بل والمنطقية أيضا ليعبر عن واقع هو أكثر إيغالا في التيه والعبث.

محمد سعيد احجيوج
[email protected]